في صحبة الأنبياء ( 2 ) قصة ابني آدم
خرج آدم من الجنة ، وهبط إلى الأرض ؛ ليعمل ويكد ويكدح ؛ ليوفر لنفسه وذريته المأكل والمشرب والملبس والمسكن ، بعد أن كان في الجنة منعما يأكل منها ويشرب هو وزوجه حيث شاءا ..
وكان هبوطه يوم الجمعة ، وهو اليوم الذي تم فيه خلقه ، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أسكن الجنة، وفيه أهبط منها، وفيه تاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة " (1). ولكنا نعلم على وجه اليقين أين نزل بعد خروجه من الجنة ، وإن أشارت بعض الروايات إلى نزوله بالهند ..
ولكن معرفة ذلك أو البحث فيه لن يفيدنا بشيء ، وإنما المفيد أن نعلم أن الله ألهم آدم منذ نزوله على الأرض كيف يتكيف معها ، ويمارس عليها مهامه ، فيزرع ويصنع ويعمر فيها ، وذلل له الدواب التي تعينه على عمله في الحرث والزرع ونقل متاعه وأثاثه ، فعلى سطح الأرض كان آدم وزوجته وأولاده يقضون أوقاتهم بانسجام بين العمل للدنيا بالسعي فيها لطلب الرزق وبين العمل للآخرة ؛ لتتحقق بذلك عبادته ، فبنى البيت الحرام ليكون محل حجه وقبلته في الصلاة ، ومن حول هذا البيت الذي هو مركز الكرة الأرضية ومحورها كان آدم وزوجه وأولاده يتحركون طلبا للرزق في كل الجهات ، شرقا وغربا وشمالا وجنوبا .
وقد ساعده قوة بنيته على التحرك لأماكن بعيدة ، حيث كان طوله كما ذكر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ستين ذراعا ؛ مما يعني أنه كان بمكنته أن يقطع مسافة الكيلومتر في حوالي 40 خطوة فقط ، وأن يصعد الهضبة التي ترتفع 100 متر في 4 خطوات .
وعمر في الأرض قرابة عشرة قرون ، لم يفتر فيها عن أداء واجبه ، ولا يغفل عن ذكر ربه ، حتى تكاثرت ذريته ، وانتشرت في الأرض ، وهنا بدأ الشيطان يمارس دوره في إضلالهم وإغوائهم ، كما أغوى أبيهم من قبل ، ولكن بصورة أشد مما أغرى به آدم .
فإذا كان قد اقتصر مع آدم وزوجه على مجرد تحريضهم على الأكل من الشجرة المحرمة عليهما ؛ بزعم أن ذلك سيمنحهما الخلد والبقاء على الأرض ؛ فإنه مع أولاده قام بنشر الحسد والبغضاء في قلوبهم ، وأغراهم بالتنافس على الدنيا ، بل ونقل العداوة من صراع بينه وبينهم إلى صراع بينهم أنفسهم ليقوموا هم ـ وللأسف ـ بالدور نيابة عنه ، وبدلا من يعادي بنو آدم إبليس وذريته ، كما أمرهم الله عز وجل في قوله : " إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ " (2) صار بعضهم يعادي بعضا ..
وامتدت العداوة من طور الحسد والتنافس على الدنيا إلى طور التقاتل ، بحيث يقتل بعضهم بعضا نيابة عن هذا الخبيث الشيطان الرجيم ..
وبدأ ذلك مع ابني آدم ( المعروفين في كتب التاريخ والتفسير باسم : قابيل وهابيل ) اللذين ورد ذكرهما في قول الله سبحانه وتعالى : " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ " ( 3) ..
وبدأ الصراع ـ كما هو ملخص في كتب التفسير ـ بأن تخاصم هذان الأخوان ؛ بسبب امرأة أراد كل منهما أن يتزوج بها دون الآخر ، وكان أحدهما أولى بها بحكم الشرع من الآخر ، فتقارعا عليها ، وقدم كل منهما قربانا ؛ ليُعلم من هو أحق بها دون الآخر ، ولكن الشيطان التف حول الرجل الذي خرجت القرعة عليه وليست له ، ولم يُتقبل منه ، وأغواه بألا يرضى بالحكم ، وأن يصر على الزواج بالمرأة دون أخيه ، وارتكب بذلك محظورين ، الأول : الحسد لأخيه على ما أن أنعم الله به عليه ، والثاني : هو الاعتراض على حكم الله وقضائه .
وظل به الشيطان حتى تحرش به وهدده بالقتل إن لم يتنازل له عن حكمه ، كما حكى القرآن الكريم في قول الله عز وجل : " لَأَقْتُلَنَّكَ " وكان الرجل الآخر مسالما إلى درجة أنه استسلم له تماما وقال له : " لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ " ..
ولكنه مع استسلامه له ، وعدم الاستجابة لتحرضه على مقاتلته لم يفرط له في حقه الذي أوجبه سبحانه وتعالى له ، ولم يتنازل له عنه ؛ مما يعلمنا أن المسلم لا ينبغي أن يفرط في حقه ، سواء أكان ذلك في ماله أو أرضه أو عرضه ، مهما كان التهديد شديدا ، ولو وصل به الأمر إلى القتل ، وليدفع عن نفسه بالمسالمة إن شاء ، أو بالقوة ، وإن قتل فإلى الجنة مصيره ، ومصير من قتله إلى النار ، فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أنه قال : " جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِى قَالَ « فَلاَ تُعْطِهِ مَالَكَ ». قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِى قَالَ « قَاتِلْهُ ». قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِى قَالَ « فَأَنْتَ شَهِيدٌ ». قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ قَالَ « هُوَ فِى النَّارِ »..
ومما يلفت نظرنا أيضا أن الرجل صاحب الحق مع تمسكه بحقه ورفضه أن يستجيب لتحريضات أخيه لم يتهاون في تذكيره بعاقبة أمره إن أقدم على قتله ، فقال له مذكرا : " إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ " (4).. ولكنه اتبع هواه ، واستسلم لإغواء الشيطان ، ونفذ مراده ، وبدافع من الحسد البغيض " فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ " (5) وارتكب بذلك أعظم جرم على وجه الأرض ، وتحمل تبعية سنة القتل التي سنها ، وصار عليه وزرها ووزر من يقتل إلى يوم الدين ..
ولطالما حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم منه فقال : " .. وإياكم والحسد فإن ابنى آدم قتل أحدهما صاحبه حسدًا .. " ( 6) ..
وقد يثار تساؤل وهو لماذا لم يقدم المقتول على دفع القتل عن نفسه عملا بمنطوق الحديث النبوي الذي يبين أن المسلم له أن يدافع عن ماله وعرضه ودمه ولو أدى ذلك إلى قتله ، والإجابة ـ والله أعلم بما كان في نيته ـ هي أن هذا الرجل لم يكن يتصور أن يتمادى أخيه في غيه حتى يقتله ، يقول الطحاوي في مشكل الآثار : وقد كان له مده يده إليه ليدفعه عن نفسه لما أراد قتله ، ولكنه خاف أن يرجع صاحبه عما كان هم به ، ويتمادى هو في الدفع عن نفسه حتى يكون في ذلك تلف صاحبه بما يفعله به ، فخاف الله عز وجل من أجل ذلك .(7) .
ولم يدر هذا المسكين القاتل وكل قاتل جاء بعده أنه يقتل نفسه قبل أن يقتل أخاه ، ويحكم على نفسه بالبوار والهلاك ..ولذلك ما أن يقدم على فلعته تحت دافع الغضب أو الشهوة أو حب الانتقام ثم يفيء إلى نفسه حتى يعلوه الندم والخزي ، ويمسي لا يدري كيف يعالج نتيجة خطئه ، وقد صور القرآن حال هذا الرجل وكيف أنه وقف مندهشا لا يدري ماذا يفعل بجثة أخيه ، ولم ير مثل هذا المشهد يحدث أمامه من قبل ، حتى ألهم الله سبحانه وتعالى غرابا ليعلمه كيف يواري تلك الجثة ، ويدفنها في باطن الأرض ، كما حكت الآية الكريمة : " فبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ " ( ..
والعجب أن الإنسان في حالة اندفاعه وغضبه يحسب أنه أعقل من الجميع ، فلا يستمع لنصح الناصح حتى إذا فاء لرشده وجد نفسه أحقر في تفكيره وتصرفاته من الغراب ، وهذا القاتل الأول يعترف بذلك فيقول : " يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ " ( 9) ..
وما ينفع الندم بعد فوات الأوان ، وإنما الذي ينفع هو أن يحسن الإنسان التفكر فيما يحصل له بعد معصيته فيجنب نفسه الوقوع فيها .
خرج آدم من الجنة ، وهبط إلى الأرض ؛ ليعمل ويكد ويكدح ؛ ليوفر لنفسه وذريته المأكل والمشرب والملبس والمسكن ، بعد أن كان في الجنة منعما يأكل منها ويشرب هو وزوجه حيث شاءا ..
وكان هبوطه يوم الجمعة ، وهو اليوم الذي تم فيه خلقه ، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أسكن الجنة، وفيه أهبط منها، وفيه تاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة " (1). ولكنا نعلم على وجه اليقين أين نزل بعد خروجه من الجنة ، وإن أشارت بعض الروايات إلى نزوله بالهند ..
ولكن معرفة ذلك أو البحث فيه لن يفيدنا بشيء ، وإنما المفيد أن نعلم أن الله ألهم آدم منذ نزوله على الأرض كيف يتكيف معها ، ويمارس عليها مهامه ، فيزرع ويصنع ويعمر فيها ، وذلل له الدواب التي تعينه على عمله في الحرث والزرع ونقل متاعه وأثاثه ، فعلى سطح الأرض كان آدم وزوجته وأولاده يقضون أوقاتهم بانسجام بين العمل للدنيا بالسعي فيها لطلب الرزق وبين العمل للآخرة ؛ لتتحقق بذلك عبادته ، فبنى البيت الحرام ليكون محل حجه وقبلته في الصلاة ، ومن حول هذا البيت الذي هو مركز الكرة الأرضية ومحورها كان آدم وزوجه وأولاده يتحركون طلبا للرزق في كل الجهات ، شرقا وغربا وشمالا وجنوبا .
وقد ساعده قوة بنيته على التحرك لأماكن بعيدة ، حيث كان طوله كما ذكر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ستين ذراعا ؛ مما يعني أنه كان بمكنته أن يقطع مسافة الكيلومتر في حوالي 40 خطوة فقط ، وأن يصعد الهضبة التي ترتفع 100 متر في 4 خطوات .
وعمر في الأرض قرابة عشرة قرون ، لم يفتر فيها عن أداء واجبه ، ولا يغفل عن ذكر ربه ، حتى تكاثرت ذريته ، وانتشرت في الأرض ، وهنا بدأ الشيطان يمارس دوره في إضلالهم وإغوائهم ، كما أغوى أبيهم من قبل ، ولكن بصورة أشد مما أغرى به آدم .
فإذا كان قد اقتصر مع آدم وزوجه على مجرد تحريضهم على الأكل من الشجرة المحرمة عليهما ؛ بزعم أن ذلك سيمنحهما الخلد والبقاء على الأرض ؛ فإنه مع أولاده قام بنشر الحسد والبغضاء في قلوبهم ، وأغراهم بالتنافس على الدنيا ، بل ونقل العداوة من صراع بينه وبينهم إلى صراع بينهم أنفسهم ليقوموا هم ـ وللأسف ـ بالدور نيابة عنه ، وبدلا من يعادي بنو آدم إبليس وذريته ، كما أمرهم الله عز وجل في قوله : " إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ " (2) صار بعضهم يعادي بعضا ..
وامتدت العداوة من طور الحسد والتنافس على الدنيا إلى طور التقاتل ، بحيث يقتل بعضهم بعضا نيابة عن هذا الخبيث الشيطان الرجيم ..
وبدأ ذلك مع ابني آدم ( المعروفين في كتب التاريخ والتفسير باسم : قابيل وهابيل ) اللذين ورد ذكرهما في قول الله سبحانه وتعالى : " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ " ( 3) ..
وبدأ الصراع ـ كما هو ملخص في كتب التفسير ـ بأن تخاصم هذان الأخوان ؛ بسبب امرأة أراد كل منهما أن يتزوج بها دون الآخر ، وكان أحدهما أولى بها بحكم الشرع من الآخر ، فتقارعا عليها ، وقدم كل منهما قربانا ؛ ليُعلم من هو أحق بها دون الآخر ، ولكن الشيطان التف حول الرجل الذي خرجت القرعة عليه وليست له ، ولم يُتقبل منه ، وأغواه بألا يرضى بالحكم ، وأن يصر على الزواج بالمرأة دون أخيه ، وارتكب بذلك محظورين ، الأول : الحسد لأخيه على ما أن أنعم الله به عليه ، والثاني : هو الاعتراض على حكم الله وقضائه .
وظل به الشيطان حتى تحرش به وهدده بالقتل إن لم يتنازل له عن حكمه ، كما حكى القرآن الكريم في قول الله عز وجل : " لَأَقْتُلَنَّكَ " وكان الرجل الآخر مسالما إلى درجة أنه استسلم له تماما وقال له : " لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ " ..
ولكنه مع استسلامه له ، وعدم الاستجابة لتحرضه على مقاتلته لم يفرط له في حقه الذي أوجبه سبحانه وتعالى له ، ولم يتنازل له عنه ؛ مما يعلمنا أن المسلم لا ينبغي أن يفرط في حقه ، سواء أكان ذلك في ماله أو أرضه أو عرضه ، مهما كان التهديد شديدا ، ولو وصل به الأمر إلى القتل ، وليدفع عن نفسه بالمسالمة إن شاء ، أو بالقوة ، وإن قتل فإلى الجنة مصيره ، ومصير من قتله إلى النار ، فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أنه قال : " جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِى قَالَ « فَلاَ تُعْطِهِ مَالَكَ ». قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِى قَالَ « قَاتِلْهُ ». قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِى قَالَ « فَأَنْتَ شَهِيدٌ ». قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ قَالَ « هُوَ فِى النَّارِ »..
ومما يلفت نظرنا أيضا أن الرجل صاحب الحق مع تمسكه بحقه ورفضه أن يستجيب لتحريضات أخيه لم يتهاون في تذكيره بعاقبة أمره إن أقدم على قتله ، فقال له مذكرا : " إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ " (4).. ولكنه اتبع هواه ، واستسلم لإغواء الشيطان ، ونفذ مراده ، وبدافع من الحسد البغيض " فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ " (5) وارتكب بذلك أعظم جرم على وجه الأرض ، وتحمل تبعية سنة القتل التي سنها ، وصار عليه وزرها ووزر من يقتل إلى يوم الدين ..
ولطالما حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم منه فقال : " .. وإياكم والحسد فإن ابنى آدم قتل أحدهما صاحبه حسدًا .. " ( 6) ..
وقد يثار تساؤل وهو لماذا لم يقدم المقتول على دفع القتل عن نفسه عملا بمنطوق الحديث النبوي الذي يبين أن المسلم له أن يدافع عن ماله وعرضه ودمه ولو أدى ذلك إلى قتله ، والإجابة ـ والله أعلم بما كان في نيته ـ هي أن هذا الرجل لم يكن يتصور أن يتمادى أخيه في غيه حتى يقتله ، يقول الطحاوي في مشكل الآثار : وقد كان له مده يده إليه ليدفعه عن نفسه لما أراد قتله ، ولكنه خاف أن يرجع صاحبه عما كان هم به ، ويتمادى هو في الدفع عن نفسه حتى يكون في ذلك تلف صاحبه بما يفعله به ، فخاف الله عز وجل من أجل ذلك .(7) .
ولم يدر هذا المسكين القاتل وكل قاتل جاء بعده أنه يقتل نفسه قبل أن يقتل أخاه ، ويحكم على نفسه بالبوار والهلاك ..ولذلك ما أن يقدم على فلعته تحت دافع الغضب أو الشهوة أو حب الانتقام ثم يفيء إلى نفسه حتى يعلوه الندم والخزي ، ويمسي لا يدري كيف يعالج نتيجة خطئه ، وقد صور القرآن حال هذا الرجل وكيف أنه وقف مندهشا لا يدري ماذا يفعل بجثة أخيه ، ولم ير مثل هذا المشهد يحدث أمامه من قبل ، حتى ألهم الله سبحانه وتعالى غرابا ليعلمه كيف يواري تلك الجثة ، ويدفنها في باطن الأرض ، كما حكت الآية الكريمة : " فبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ " ( ..
والعجب أن الإنسان في حالة اندفاعه وغضبه يحسب أنه أعقل من الجميع ، فلا يستمع لنصح الناصح حتى إذا فاء لرشده وجد نفسه أحقر في تفكيره وتصرفاته من الغراب ، وهذا القاتل الأول يعترف بذلك فيقول : " يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ " ( 9) ..
وما ينفع الندم بعد فوات الأوان ، وإنما الذي ينفع هو أن يحسن الإنسان التفكر فيما يحصل له بعد معصيته فيجنب نفسه الوقوع فيها .